علا طفلة عنيدة نوعاً ما.... بل عنيدة تماماً في الحقيقة... معتدة برأيها بدرجة شديدة..... ولا تعترف بخطئها بسهولة....... ولا بصعوبة....... –والحق يقال- ...... ولكنها مع ذلك كانت حريصة جداً على التفوق، التفوق في كل شيء، في الدراسة والذكاء والحوار، والأناقة والمظهر، وكل شيء.
كل هذه الصفات لاحظها فيها والداها منذ نعومة أظفارها ، وعندما بلغت الحادية عشر من عمرها، كانت هذه الصفات قد تبلورت في شخصيتها تماماً.وكانت أمها حريصة كل الحرص على الإتيكيت....
- يا علا، قلت لك ألف مرة أن تمسكي الشوكة باليسار والسكين باليمين، فهذا هو الإتيكيت.
- ولكنني لا أستطيع أن آكل باليسار يا ماما ثم إنني لا أتحكم في السكين جيداً عندما أمسكها باليمين؟
- ما هذه الحجة الواهية؟ أتكتبين باليمين أم بالشمال؟
- باليمين.
- إذن فيدك اليمين هي الأقوى، وبالتالي فإن الطبيعي أن تتمكني من قطع اللحم باليمين لأنها الأقوى، وإذن تأكلين بالشمال.
أبدلت علا الشوكة والسكين في يديها، وحاولت مجدداً، ولم تتمكن، وشعرت بالتعب والملل، فتركت طبقها، وانسحبت من المائدة.
قال الأب معاتباً زوجه:
- هاقد جعلتها تمل وتترك الطعام.
- لا يهم..... من الضروري جداً أن تتعلم الإتيكيت حتى تكون ناجحة اجتماعياً، لقد كبرت، وإذا لم تتعود على الطريقة الصحيحة في تناول الطعام من الآن، فسيصعب عليها تعلم ذلك عندما تكبر، وستحرجنا وتحرج نفسها أمام الناس.
وتكرر هذا الموقف كثيراً، حتى صارت علا، التي اعتادت على النجاح والتفوق دائماً، تحس بالإحباط، وتحاول التهرب من تناول الطعام مع والدتها، أو تختار لنفسها زاوية من المائدة لا تلاحظها فيها أمها، لتتمكن من الأكل بحرية.
ولكن......... حصل في يوم من الأيام أن كانت الأسرة مدعوة لتناول العشاء لدى أسرة صديقة من أسر المجتمع المخملي..... وكم أحست أم علا بالحرج من سلوك ابنتها، وبدا لها أن كل من في قاعة الطعام يرمق ابنتها -التي لا تعرف الإتيكيت- بسخرية وإشفاق، وأحست علا بنظرات أمها الثاقبة، مما زاد في اضطرابها، وفي عدم قدرتها على تطبيق قواعد الإتيكيت الصارمة، حتى تلك التي كانت تتقنها عادة، فازداد إحراج الأم، لدرجة لم تتمالك معها نفسها، فانفجرت في وجه ابنتها بمجرد عودتهم إلى المنزل......
- لقد اسود وجهي اليوم بسببك، وتمنيت لو انشقت الأرض لتبلعني بسبب تصرفاتك السيئة، ماذا سيقول الناس عنك وعني؟ أنني لا أعرف كيف أربي ابنتي، أو أعلمها الذوق الرفيع وآداب الطعام؟
حاول الأب أن يهدئ من ثورة زوجته، وأن يفهمها أن الأمر ليس بهذا السوء، وأنه متأكد أن أحداً لم يلاحظ ذلك.
الأم بثورة:
- كيف لم يلاحظ أحد؟؟!!.... لقد همست مدام سامية بصوتها الرفيع الحاد في أذني وقالت: "يبدو أنك يا عزيزتي لم تلاحظي أن ابنتك تمسك الشوكة باليمين، عليك أن تلفتي نظرها لذلك". ...... ولك أن تتخيل شعوري وقتها..
هنا انفجرت علا رغم صغر سنها، ولكن بكل طاقتها في المعاندة والمكابرة، وقالت:
- لماذا أمسك الشوكة بالشمال، مادمت أرتاح لمسكها باليمين؟ هل لك أن تقنعيني؟
- لأنه الإتيكيت.
- ما معنى إتكيت؟
- يعني الأصول.
- ومن وضع هذه الأصول؟
- (الأم بدهشة): ...... ماذا؟؟.....
- أريد أن أعرف من هذا الذي وضع هذه الأصول؟
- لا أدري!!... إنه أمر تعارف عليه كل الناس الراقين.
- من هم هؤلاء الناس الراقون؟ أريد أن أعرفهم.
- (الأم بضجر): إنهم الناس الذين يفهمون في آداب الطعام.
- من قال إنهم يفهمون؟
- كل الناس.
- الناس... الناس... من هؤلاء الناس؟؟؟؟؟..... إنهم مجرد ناس.... لماذا علي أن أطيعهم؟؟...... وأنا أيضاً ناس..... وأنا أفهم أيضاً.... وأزيدك يا ماما أنا أعتقد أنني أذكى وأرقى من هؤلاء الناس الذين وضعوا تلك الأصول....... وأنا سأضع أصولاً جديدة................ من الآن فصاعداً: الأصول أن يأكل الناس وهم يمسكون بالشوكة في اليمين، والسكين في الشمال.
- (الأم بدهشة توشك أن تتحول إلى ذعر):أجننت يا علا؟؟......
- لماذا جننت؟؟ لقد مللت من كلمة الأصول هذه.... اعملي كذا لأنه أصول...... لا تفعلي كذا لأنها الأصول ... من وضع تلك الأصول؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟..... الناس!!!!!!!ناس مثلي ومثلك يا ماما....... لماذا علي أن أسمع كلامهم، وأتبع قوانينهم وقواعدهم؟؟ ..... لماذا؟؟؟؟هم ناس....وأنا ناس............... وأنا سأضع أصولاً جديدة.......... من أعجبه فليتبعها، ومن لا تعجبه فلا يتبعها.
وذهبت علا إلى غرفتها مغضبة.والتفتت الأم بدهشة ممزوجة بالغضب والذهول إلى الأب، وقد عقدت المفاجأة لسانها، وكأنها تستنجد به ليقول شيئاً.....
ابتسم الأب،وقال: طالعة لأبيها.
- طبعاً........... أنت الذي تغذي فيها هذا العناد.
- والله كلامها صحيح 100% ........... ولمعلوماتك: إن السنة النبوية تقول أن يأكل الإنسان بيمينه.
- إن ابنتك لا تأكل باليمين لتتبع السنة، بل عناداً فيَّ فقط، وأرجووووك.. لا تخبرها بهذا حتى لا يزيد عنادها.
وقطع الأب على نفسه عهداً ألا يخبر ابنته أبداً بهذه المعلومة، حتى لا يزيد من عنادها.
ثم ماذا؟؟
دارت الأيام............. ومرت السنوات والأعوام........... وكبرت علا وتزوجت، ودعت أهل زوجها ذات يوم إلى عشاء فاخر في منزلها، وكم كانت دهشة أمها عندما وجدت أن ابنتها قد نسقت المائدة بطريقة في غاية الأناقة والدقة، ولكن................ مع خطأ واحد فظيع.......... فظيع جداً........كانت كل الشوك على يمين الأطباق........... وكل السكاكين على الشمال.
نظرت الأم إلى ابنتها لتجدها تقف مبتسمة مفتخرة:
قالت علا: هذا الإتيكيت الجديد يا ماما............ إتيكيتي أنا........... الشوكة على اليمين، والسكين على اليسار